فصل: تفسير الآية رقم (56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (56):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [56].
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: تعبدونه أو تسمونه آلهة. ثم كرر الأمر تأكيداً لقطع أطماعهم بقوله تعالى: {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} أي: في عبادة الأصنام، وطرد من ذكر.
ثم قال البيضاوي: هو إشارة إلى الموجب للنهي. وعلة الامتناع عن متابعتهم، واستجهال لهم، وبيان لمبدأ ضلالهم، وأن ما هم عليه هوى، وليس بهدى. وتنبيه لمن تحرّى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد. انتهى.: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} أي: إن اتبعت أهواءكم، لمخالفة الأمر الإلهي والعقل جميعاً {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي: للحق إن اتبعت ما ذكر. وفيه تعريض بأنهم كذلك.

.تفسير الآية رقم (57):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [57].
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليّ، لا يمكن التشكيك فيها: {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} استئناف أو حال، والضمير للبينة. والتذكير باعتبار المعنى المراد. أعني: الوحي، أو القرآن، أو نحوهما {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي: من العذاب.
قال أبو السعود: استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بالبينة، وهو عدم مجيء ما وعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48]؟ بطريق الاستهزاء، أو بطريق الإلزام، على زعمهم. أي: ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن، وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه، في حكمي وقدرتي، حتى أجيء به، وأظهر لكم صدقه. أو ليس أمره بمفوّض إليّ.
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أي: لو كان عندي لكنت أنا الحاكم، لكن ما الحكم في ذلك تعجيلاً وتأخيراً إلا لله، وَقَدْ حَكَمَ بتأخيره، لما له من الحكمة العظيمة، لكنه محقق الوقوع لأنه: {يَقُصُّ الْحَقَّ} أي: يبينه بياناً شافياً {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي: القاضين بين عباده.
لطيفة:
قُرئ: {يَقُصُّ الْحَقَّ} بالضاد، وانتصاب الحق على المصدرية، لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه. أو على المفعولية، بتضمين يقضي معنى ينفذ، أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها. قال الهذلي:
وعليها مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ** داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ

قال الرازي: واحتج أبو عمر على هذه القراءة بقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} قال: والفصل يكون في القضاء، لا في القصص. وأجاب أبو عليّ الفارسي. فقال: القصص هاهنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول. قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13]. وقال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] وقال: {نُفَصِّلُ الْآياتِ} [الأعراف: 32]. انتهى.
قال الشهاب: معنى يقصه أي: يبيّنه بياناً شافياً، وهو عين القضاء.

.تفسير الآية رقم (58):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [58].
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} أي: لو أن في قدرتي وإمكاني العذاب الذي تتعجلونه، بأن يكون أمره مفوضاً إليّ من قبله تعالى، لقضي الأمر بيني وبينكم، بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم.
وفي العناية: قضي الأمر بمعنى قطع. وقضاؤه كناية عن إهلاكهم.
قال أبو السعود: وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيين الفاعل، الذي هو الله تعالى، وتهويل الأمر، مراعاة حسن الأدب- ما لا يخفى. فما قيل في تفسيره: لأهلكتكم عاجلاً، غضباً لربي، واقتصاصاً من تكذيبكم به، ولتخلصت سريعاً- بمعزل من توفية المقام حقه.
وقوله تعالى: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الامتناعية، من انتفاء كون أمر العذاب مفوضاً إليه صلى الله عليه وسلم، المستتبع لانتفاء قضاء الأمر، وتعليل له. والمعنى: والله تعالى أعلم بحال الظالمين، وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج، لتشديد العذاب، ولذلك لم يفوض الأمر إليّ، فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب. انتهى.
تنبيه:
قال ابن كثير: فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني. فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال فناداني ملك الجبال، وسلّم عليّ، ثم قال يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك. وأنا ملك الجبال. وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبْين! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً».
وهذا لفظ مسلم. فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً.
فالجواب:- والله أعلم- أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه، حال طلبهم له، لأوقعه بهم. وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه، إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة، يكتنفانها جنوباً وشمالاً، فلهذا استأني بهم وسأل الرفق لهم. انتهى.
ثم بيّن تعالى اختصاص المقدورات الغيبية به، من حيث العلم، إثر بيان اختصاص جميعها به تعالى من حيث القدرة، بقوله:

.تفسير الآية رقم (59):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [59].
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} جمع- مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح- وقُرئ: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} شبه بالأمور الجليلة التي يستوثق منها بالأقفال، وأثبت لها المفاتح تخييلاً.
وقوله تعالى: {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} تأكيد لمضمون ما قبله، وإيذان بأن المراد الاختصاص من حيث العلم. والمعنى: ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي، حتى ألزمكم بتعجيله، ولا معلوماً لديّ لأخبركم بوقت نزوله، بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلماً، فينزله حسبما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحكم والمصالح- أفاده أبو السعود-.
ثمّ لما بين تعالى علمه بالمغيبات، تَأثَّرَهُ بالمشاهدات، على اختلاف أنواعها، وتكثر أفرادها بقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} من الخلق والعجائب. ثم بالغ في إحاطة علمه بالجزئيات الفائتة للحصر بقوله سبحانه: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي.
تنبيهات:
الأول- قال الحاكم: دل قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} على بطلان قول الإمامية: إن الإمام يعلم شيئاً من الغيب. انتهى.
وفي فتح البيان: في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرملّيِين وغيرهم من مدّعي الكشف والإلهام، ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به عملهم. ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، الأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد».
قال ابن مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب.
قال ابن عباس: إنها الأقدار والأرزاق.
وقال الضحاك: خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب.
وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.
وقيل: هو انقضاء الآجال، وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم. واللفظ أوسع من ذلك. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى. لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله. ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً. ولا تدري نفس بأي أرض تموت. ولا يدري أحد متى يجيء المطر»- أخرجه البخاري- وله ألفاظ. وفي رواية: «ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله». انتهى.
الثاني- قُرئ {ولا حبةٌ ولا رطبٌ ولا يابسٌ} بالرفع، وفيه وجهان: أن يكون عطفاً على محل {من ورقة} وأن يكون رفعاً على الابتداء، وخبره: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار- كذا في الكشاف-.
الثالث- ما أسلفناه في الكتاب المبين من أنه اللوح المحفوظ هو المتبادر من إطلاقه أينما ورد. وقيل: الكتاب المبين علم الله تعالى. والأظهر الأول.
قال الزجاج: يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق، كما قال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]. وفائدة هذا الكتاب أمور:
أحدها- أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء. فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ، لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم، فيجدونه موافقاً له.
وثانيها- يجوز أن يقال: إنه تعالى ذكر ما ذكر، من الورقة والحبة، تنبيهاً للمكلفين على أمر الحساب، وإعلاماً بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء، لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى.
وثالثها- أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم، وإلا لزام الجهل، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام، امتنع أيضاً تغييرها، وإلا لزم الكذب، فتصير كِتْبَةُ جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجباً تامّاً، وسبباً كاملاً في أنه يمتنع تقدم ما تأخر، وتأخر ما تقدم، كما قال صلوات الله عليه: «جف القلب بما هو كائن إلى يوم القيامة». انتهى.
الرابع- روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} قال: ما من شجرة في بر ولا بحر، إلا مَلَك موكل بها، يكتب ما يسقط منها.
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة، ولا كمغرز إبرة، إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها. يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا ركبت. وكذا رواه ابن جرير.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خلق الله النون وهي الدواة، وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا حتى تنقضي، ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلالٍ أو حرام، أو عمل بر أو فجور، وقرأ هذه الآية: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} إلى آخر الآية.

.تفسير الآية رقم (60):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [60].
{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} أي: يُنيمكم فيه. استُعير التوفي من الموت للنوم، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، فإن أصله قبض الشيء بتمامه.
{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أي: فيه: وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب، جرياً على المعتاد {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} أي: يوقظكم. أطلق البعث ترشيحاً للتوفي: {فِيهِ} أي: في النهار: {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} أي: ليتم مقدار حياة كل أحد.
{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: في ليلكم ونهاركم، بالمجازاة عليه، مبالغة في عدله.
تنبيهان:
الأول- ظاهر الخطاب في الآية على العموم. وخصه في الكشاف بالكفرة، ذهاباً إلى أن قوله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} يدل على تهديد شديد، لا يليق إلا بالمعاندين الجاحدين، وأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل، كما أن قوله: {مَا جَرَحْتُم} بيان حالهم المذمومة في النهار. وحمل البعث لا على الإيقاظ، بل على البعث من القبور. وفي {فيه} بمعنى من أجله كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا، والمعنى: أنكم ملقَوْنَ كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار. وأنه تعالى مطلع على أعمالكم، يبعثكم من القبور في شأن ما قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى، وجزائهم على أعمالهم. والذي حمله على ذلك. زعمه أن قوله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} دالّ على حال اليقظة، وكسبهم فيها. وكلمة: {ثُمَّ} تقضي تأخير البعث عنها.
قال شراحه: ولا يخفى ما فيه من التكلف، وأنه لا حاجة إليه، لأن قوله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل، ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي، وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي. وإن قولنا يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدرة كلام منتظم غاية الانتظام.
الثاني- قال الشريف المرتضى في الدرر والغُرر فيما وقع من القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو: {وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} و: كيف ترجع إليه، وهي لم تخرج من يده؟ وأجاب: بأنه في دار التكليف قد يغير البعض، فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره. فإذا انكشف الغطاء، انقطعت حبال الآمال عن غيره، فيرجع إليه. أو أن المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقيّ. فرجع بمعنى صار. تقول العرب: رجع عليّ من فلان مكروه، بمعنى صار، ولم يكن سبق. فهو بمعنى المصير إليه، كما تشهد به اللغة. أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهرا كالعبد لسيده، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة، زال ذلك، ورجع الأمر كله إلى الله، ظاهراً وباطناً.